لئلاَّ تتوارى القيادة
يتحكَّمُ بالميدان التربوي مجموعةٌ كبيرةٌ من النُّظُم؛ تعليمية وتربوية وتنفيذية وإشرافية...و لا يتحقَّق نجاحُ العمل في هذا الميدان المؤثِّر إلا إذا تكاملت النُّظُم، وتعاضدت الرؤى وتآزرت التوجُّهات؛ لِتقودَ المتأثِّرين فيه وبه نحو التوازنِ والصلاح التربوي خاصَّة والمجتمعي عامَّة.
فعلاقة التربية بالنظم المجتمعية علاقة استيراد وتصدير، وتأثُّر وتأثير...يجود الْحَصادُ إنْ جاد الغِراس، ويحسُنُ المتأثِّر إنْ علا المؤثِّر.
وفي سياج هذه النُّظُم وتحت لوائها، ينقِّب المجتمع باحثًا عن القائد الذي يحمل اللواء ويوجِّه الدفَّة، ويعتلي منبر الإدارة، ويصوغُ من المقوِّمات الإنسانية التي بين يديه عطاءاتٍ وإنجازات تردم الْهُوَّة وتسدُّ الفجوات.
قائد يمتلك من المقوِّمات التي تمكِّنه من استكناه أعماق محيط التربية، وإحراز رؤًى خلاَّقة يشكِّلها من مضمونات المجتمع وعناصره الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصاديَّة...قائد ملهم يشكِّل بين أنامله المتاحَ من الإمكاناتِ التي تصهر ما يواجه التقدُّم التربوي المنشود من عقبات؛ وليفيَ بمتطلبات الأمة وحاجاتها على الأصعدة جمعاء.
قائد يتناغم بإيقاعات عبقريته مع التغييرات والتحَوُّلات الْمُتسارعة في المجالات المختلفة؛ ليبشِّر ويطالب بها واضعًا نصب عينيه ما يُصلح شؤون المجتمع ويلبِّي تطلعاته، ويستجيب لمطامحه، وليصكَّ منها نقدًا ماسيَّ الصياغة مؤتلف الإبداع، منسجم الوهج بأهداف الأمِّة العليا ومقاصدها ومراميها...فلا تفريطَ في الثوابت ولا تَخلٍّ عن الأسس الرواسخ، ولا ترقيعَ لِمُزوقاتٍ و خُروقات أحدثتها عولمةٌ جامحةٌ تشاءُ الاستئثارَ بحيازةِ ناصية الحضارة.
وتحت أجنحة البحث عن القائد التربويِّ المنشود تتكسَّرُ بعضُ الألويةِ، وتتبعثر وتتذارر؛ إمَّا لغياب منظور التربية عن ذهن ذاك القائد، أو لضمور اعترى روحها لديه، أو لضبابيَّة عنده في الرؤية العامَّة لها، أو لتبعثر في كثير من خيوط الرؤى الخاصَّة بشأنها.
وبين الشريحة والمجهر يرى المستقصي صورة مكبَّرةً لِتشظٍّ فكريٍّ، وتصادم ثقافيٍّ، وترهُّلٍ تربويٍّ يلقي بظلاله القاتمة على حقل التنقيب عن قائدٍ تربويٍّ يُحسنُ الاضطلاع بمهامِّه، ويجيد تولِّي مسؤولياته والتزاماته، وفاءً بالأمانة وإيمانًا بالولاء للوطن.
وإذا ارتادَ مرتادٌ حقلَ التنقيب ذاك سَيَنْشَدِهُ -حتمًا- بالأدوات والوسائل التي يَعْمَدُ إليها بعضُ العامدين في عمليات استخراج القائد أو استجلاء قدراتِه وإمكاناتِه...فالفقرُ يكادُ يكون مُدقِعًا في الأساليب والأدوات، إضافةً إلى غَبَشٍ يحجب الاستنارة بفلسفة ذات أبعاد، ونظرية ذات أعماق تنير الدرب وتظهر المكنونات...
من هنا نال الضيمُ مجال القيادة التربوية فهي بين سندان قصور الآليات والأدوات في الاختيار، ومطرقة غياب الفلسفة والرؤى في التمكين والاستحكام.
وتماشيًا مع مقولة \"الشيءُ بالشيءِ يُذكر\" ألا يكون من المستحسن لِمُستجلي القيادة والمنقِّب عنها أن يستمدَّ من تجاربِ كبرى الشركات والمؤسسات خيوطَ نورٍ يقتفي أثرَها في تنقيبِه عن القيادات؛ لئلا يصطدمَ بجمجمةٍ جوفاء، وعقلٍ خواء، وفكرٍ أشلاء، يكونُ وبالُه على الحقلِ أشدَّ وطأةً من المبيد العنيد، وأكثر خطرًا من الخصم غير الرشيد.
فالأمر ليس شغلاً لكرسي، ولا سدًّا لفراغ، ولا ملأً لمساحة...لكنَّ القضيَّة جوهريَّة عميقة، ومصيريَّة وثيقة...؛فَبِحُسنِ الاختيار ينتظم المدار، وتتناغم الأفلاك، وتتآخى العناصر لتخطو خطوات الثقة نحو تحقيق الهدف وبلوغ المرام، في حقل عظيم التأثير، إنْ لم يكن أعظمها أثرًا على الهياكل المجتمعية والتركيبات الأممية على حدٍّ سواء.
إنَّ تعليقنا الآمال العِراض على حقل التربية والتعليم، وتركيزنا على من يقود هذا الحقل، ويعمل على تنمية غراسه، يعدُّ دافعًا وحافزًا قويًّا لتجويد وسائل اختيار القيادات وتعهُّدها ورعايتها.
ولعلَّنا لا نذيع مستترًا، ولا ننشر مجهولاً إنْ قلنا بأنَّ من الشخصيات التي نُبَوِّئُها مناصب القيادة التربوية في المدرسة والمعهد والقسم والوحدة والإدارة، مَنْ لَمْ تحظَ بإعداد مسبق يستحثُّ قدراتِها، ويصقل مهاراتِها، أو بتدريب قبليٍّ هادف يعمل على ترميم إمكاناتِها ويستكمل أطر بنيتِها، أو بتوجيه متوازٍ داعم ينسِج أفْرُعَ علمِها ومعرفتها...بل قد يُقذف بِها في يَمِّ التجربة قذفًا، لتخوضها وتخبرها بعلمها وجهلها. تلفُّها في ذلك أعاصير المسؤوليات والالتزامات، وتصعد بها وتهبط أمواج الأوامر والمنهيات...فإنْ أجادت فمن الله، وإن أخطأت أو قصَّرت فستقذف بوابلٍ من اللوم والتقريعات... وأنَّى لصوتها أن يُسمع، أو لاستجدائها الرعايةَ أن يُستجاب له.
وقد تتقوقع وتُرَمّ على جهلٍ وضعفٍ تخشى أن يفوحَ ريْحُه ويذيعُ أمره؛ فتلجأَ إلى تزييف الظاهر، وتلميع المعابر، دونَ البواطن والجواهر.
وقد تعمد إلى امتطاء صهوة إبداعات غيرها لتعقلَها إلى حياضِها، ولتجيِّرَها لصالحها؛ فيعلو شأنها ويزكو بيعها، وتكون صاحبة الحظوة و الريادة، مقابل طمرٍ متعمَّدٍ لكنوز ثمينة ومواهب دفينة لا يستغني عنها ميدانها، بل وتشرئبُ شرايينه إليها.
ولا نظنُّ أنَّ حصافة ذوي الرأي ورجاحة فكر المفكِّرين تحجب عنهم أهمية القيادة التربوية وخطر شأنها في سياقةِ دُورِ العلم، ومعاهده ومؤسَّساته، وفائقِ وظيفتِها في صيانةِ عقولِ الناشئةِ ورعايةِ وجدانهم وتفتيقِ قدراتِهم.
فلقد أصبحت القيادة في عصرنا الراهن علمًا يُدرَّس، ومهنةً يُدرَّب على مزاولةِ مهاراتِها الفنيَّة والإنسانيَّة والفكريَّة بعد أن تطوَّرَ مفهومُها وتعدَّدت وظائِفُها ووسائِلُها بصورةٍ باينت ما كانت عليه في الماضي...
وإحداثُ النَّقلةِ النوعيَّة في القيادة التربويَّة يتطلَّب -بداية الأمر- تحديدَ كُنْهِ القيادة التي نريد، ومن ثمَّ توفير المستلزمات الأساسية لتحقيقها.
وبنظرةٍ ماسحة لحال المجتمعات الراقية نجد أنَّ من المطالب الأساسية لها -في إطار وعيها بعوامل نهضتها وعناصر تقدمها- اهتمامها بإعداد القيادات في شتى المجالات ولاسيَّما التربية والتعليم؛ لكون القيادة التعليمية التربوية هي التي تهب النظام التعليمي ما يعوزه من الحيوية والمرونة ليتكيف مع الظروف ويعكس الواقع ويعين على تطوير المجتمع والارتقاء به في مدارج العز والكرامة.
ورغم تشابه المسميَّات في القيادة التعليمية مع غيرها من أنواع القيادات الأخرى في الْمُدخلات والْمُخرجات والطرق والوسائل والأهداف...إلاَّ أنَّ للقيادةِ التربويَّةِ نكهةً خاصَّة وتميُّزًا يتفرَّدُ بِها عن باقي القياداتِ للخصائصِ التالية:
1. أهميَّة القيادة التربويَّة وضرورتها الفائقة؛ لما تُقدِّمه من خدمات ترتبط بالمنزل وآمال الآباء وتطلُّعاتهم بالنسبة لأبنائهم، والحاجة إلى مواطنٍ صالح يكون سببًا في رفاهيَّة المجتمع وتقدُّمه.
2. صِلتها الوثيقة بالمجتمع؛ فكل ما يجري داخل جدران المدرسة من نشاطات وتفاعلات إدارية أو تعليمية يجد له الصدى والتأثير في المجتمع، وكل ما يجري داخل المؤسسات التربوية يتأثَّر إلى حدٍّ بعيد بما يُتخذ من إجراءات وسياسات إدارية تربوية. وكلُّ عملٍ تؤدِّيه القيادات التربوية يكون مكشوفًا ومعروفًا لدى المجتمع، الذي يؤثِّر على توجيهه الوجهة التي يريد.
3. تعدُّد وظائفها وتشابكها؛ لكونها تمتلك من المسؤوليات والوظائف ما يعدُّ بالغ الأهمية معقد النسج متشابك الأثر والتأثر، تنثره في كل مجال وبأي اتِّجاه...وأي خلل في أي موقع من مواقع تلك الوظائف والمسؤوليات يؤدي إلى ظهور نتائج سلبية في المجالات الأخرى، ولَمَّا كان القائم على تلك الوظائف هو الإنسان؛ كان لابدَّ له أن يكون مؤهَّلاً للعمل في هذا المجال قادرًا على الترشيد، متمكِّنًا من تحقيق الأهداف.
4. ألفة العلاقات الضرورية لما تتضمَّنه العمليات التعليمية بمستوياتها الفنية والإدارية من احتكاكات مباشرة بين العناصر البشرية المختلفة (مشرفين ومعلمين ومنفذين وتلاميذ وآباء وأمهات...) ما يضفي مزيدًا من التميز على القيادة التربوية.
5. حاجتها للتأهيل التربوي والمهنيِّ فالمؤسسات التربوية ليست مشاغل أو مصانع تضم عمالاً ومنفذين يقفون على خطوط إنتاج مُمَكْنَنة، بل هي مؤسسات مادتها الناس تعمل معهم وبوساطتهم...والعمل مع الناس وبوساطتهم لا يترك للتجربة والخطأ مجالاً، ولا يتيح لعامل المصادفة مكانًا، فَمَن يتعامل مع الإنسان لابدَّ أن يكون عالمًا بمكامن قدراته، خبيرًا بموارد مهاراته مطَّلعًا على حاجاته وتطلُّعاته.
6. صعوبة القياس والتقويم إنَّ صعوبة التحكُّم في مدخلات المؤسَّسات التربوية، وصعوبة قياس مخرجاتها أمران يضفيان على قيادتها مزيدًا من التميُّز والتفرُّد على... ما يعني حاجة ملحَّة إلى توعية بدورها واستحثاثًا لهممها؛ لكي تؤدِّي وظائفها المنوطة بها في إخراج أجيال تتمتع بالقيم والإمكانات وإيجابي الاتجاهات.
وللقيادة التربوية جملة من المهارات الفنية والإدراكية والاجتماعية التي يمكن أن تعلَّم لكون العلم مفتاح الأبواب المنغلقة، ومسبار المعارج المؤتلقة...ومن أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم ومن أرادهما معًا فعليه بالعلم.
وأوَّل خطوة في سبيل خلق القيادة التربوية الفاعلة أو إعادة تأهيلها وتشكيلها، تكمُن في بذل الاهتمام الواعي بها، وتهيئة مجالات الإعداد الموائمة لها من خلال المؤسَّسات التعليمية والتدريبيَّة رفيعة الشأن، أومن طريق الجامعات والكليات التخصُّصية؛ ليظفرَ بِها الوطنُ وتتشرَّفَ هي بخدمته والمساهمة في رصف لبنات حضارته، ولئلا تتوارى القيادة...وإلى خطوات تالية.
أ. جواهر بنت محمدَّ مهدي
مستشارة مدير عام التربية والتعليم بمحافظة جدة
نشر بتاريخ 15-11-2009
0
0
1.7K
2010-05-02 03:54 صباحًا