أنماط التراث الجغرافي العربي
مدخل
...
أنماط التراث الجغرافي العربي:
إن استعراض المراحل التي مر بها التراث الجغرافي العربي خلال العهود التأريخية، قد أوضح لنا بأنه قد اتخذ أنماطًا متعددة من الكتابة الجغرافية، ولا يمكننا بطبيعة الحال أن نقرن تلك الأنماط بالمسميات، والمصطلحات الجغرافية الحديثة إلا تجاوزًا، ذلك أن "المفهوم الجغرافي" لم يكن واضحًا في أذهان المؤلفين العرب القدامى، ولم تعتبر الجغرافية "تخصصًا" مستقلًا "شأن التأريخ مثلًا"، إلا في حالات نادرة، بل إن مصطلح "جغرافيا" نفسه لم يستخدم إلا في النادر، كعنوان للمؤلفات الجغرافية، وكثيرًا ما استخدم بديلًا لمصطلح "خارطة" الحديث، وهكذا نجد بأن الكتابات الجغرافية، قد اتخذت مختلف المسميات حسب مضامينها، فاتخذت المؤلفات الجغرافية التي نحت منحى فلكيًا اسم "علم الأطول والعروض"، أو اسم "تقويم البلدان"، واتخذت المؤلفات الجغرافية التي ركزت على ذكر طرق المواصلات اسم "علم البرود"، واتخذت مؤلفات الجغرافية الوصفية للبلدان اسم "علم الأقاليم"، غير أن مصطلح "صورة الأرض"، كان يعتبر عمومًا النظير لمصلطح "جغرافيا".
ولم يتول كتابة المؤلفات الجغرافية جغرافيون متخصصون، "وإن لم يكن التخصص مفهومًا بالمعنى الذي نألفه اليوم"، وتولى كتابتها إما مؤخرون من أمثال المسعودي، واليعقوبي والبلخي وابن خلدون، "بل إن الكثير من كتب التأريخ قد اشتملت على فصول جغرافية"، أو فلكيون من أمثال الخوارزمي والبتاني والبيروني، أو رحالة عموميون من أمثال ابن جبير وابن بطوطة. والحقيقة أن حيرة "الجغرافية" بين المتخصصين ليست أمرًا جديدًا، فلقد عانتها قبل العرب على أيدي المؤلفين اليونانيين والرومان، فاحترف كتابتها المؤرخون أمثال هيرودوت، والفلاسفة أمثال أرسطو والفلكيون أمثال بطليموس، والمثقفون العموميون أمثال بليني، بالرغم من وجود جغرافيين متخصصين أيضًا أمثال إراتوستيني وسترابو، وظلت الجغرافية تعاني هذه الحيرة أثناء العصور الوسطى، ومطلع العصور الحديثة في أوروبا، حيث ساهم في كتابتها فلاسفة من أمثال عمانوئيل كانت، ومؤرخون من أمثال فيدال دي لا بلاش، وعلماء نبات من أمثال فورستر، ولا تزال الجغرافية حتى اليوم تعاني حيرة في "تخصصاتها" بين علماء الحقول العلمية الصرفة، وبين علماء العلوم الإنسانية. وكل طائفة منهما تحاول أن تجتذبها إلى صفها، فلا يمكن والحالة هذه أن نلوم الجغرافيين العرب على انعدام التخصص الجغرافي لديهم "في الأشخاص، وفي المواضيع"، ومع ذلك فإن من الممكن أن نتلمس "أنماطًا" متميزة من الكتابات الجغرافية ذات تخصصات متنوعة، وذات أساليب ومناهج متباينة، وينبغي أن نؤكد منذ البداية أن تمييزنا لتلك "الأنماط" أمر ينطوي على الكثير من التسامح وعلى الأحكام الفضفاضة، وأن مؤلفيها لم يفكروا بانتهاج "مناهج" و"أساليب" متباينة عن عمد في كتاباتهم إلا في حالات نادرة، كما أن وجود "أنماط" متباينة في التراث الجغرافي العربي لا يعني خضوعها لتطور تأريخي معين، فقد وجدت مثلًا المؤلفات "الكوزموغرافية" في نفس الوقت، الذي كانت تكتب فيه المؤلفات "الإقليمية"، كذلك وجدت المؤلفات "الفلكية" ذات الصفة الجغرافية في جميع عهود الكتابة الجغرافية منذ بدايتها، وهذا ما ينطبق أيضًا على "الرحلات" و"المعاجم الجغرافية"، ومع ذلك فالذي لا ريب فيه أن كل "نمط" من الأنماط التي سنأتي على ذكرها في الصفحات التالية، يشترك في سمات وخصائص واضحة.