مقدمة: علم الجغرافية عند العرب
إن دراسة التراث الجغرافي العربي، وتقييمه والتعرف على معطياته، وإدراك مكانته في تاريخ تطور الفكر الجغرافي يتطلب أولًا معرفة الظروف التاريخية التي نشأ فيها هذا التراث، والمراحل التي اجتازها أثناء تطوره، فمن المعلوم أن المعارف العربية قبل الإسلام كانت محدودة، ومنحصرة في حقول معينة أهمها اللغة والشعر، وأنساب القبائل التي تمثل جانبًا من جوانب التأريخ، وبالطبع فلم يكن لديهم معرفة جغرافية منظمة، غير أن طبيعة حياتهم كانت تفرض عليهم الإلمام بشيء من تلك "المعرفة"، والحقيقة أن العرب بالذات -ونقصد بهم سكان جزيرة العرب- كانوا أحوج الشعوب إلى المعرفة الجغرافية بشقيها الفلكي والوصفي، فتنقل العشائر البدوية الدائم في أرجاء تلك الجزيرة الشاسعة، كان يتطلب معرفة "المسالك" الصحيحة إلى مواطن الكلأ، كما كان يستوجب أيضًا معرفة مواقع "الآبار" التي تعتبر مفاتيح الصحراء، لذلك فقد ظهر بين البدو منذ زمان بعيد ما يمكن أن نطلق عليهم اسم "الجغرافيون المحترفون"، وهم "الأدلاء" الذين كانوا على معرفة جيدة جدًا بديرة عشائرهم، وكان لهؤلاء الأدلاء شيء من الثقافة الجغرافية المتنوعة -بالمعنى العريض لهذا المصطلح- تشمل نباتات وحيوانات البادية، إضافة إلى صفاتها الطوبوغرافية، بل وشيئًا من المعرفة الفلكية بالنجوم والكواكب ومساراتها، وقد نشأت لدى البدو عمومًا ثقافة فلكية طيبة انبثقت من طبيعة حياتهم الدائمة الترحال في الليل، والنهار وفي الصيف والشتاء، ومن طبيعة بيئتهم الصحراوية ذات السماء الشديدة الصحو في معظم شهور السنة حيث تملأ النجوم، والكواكب صفحة السماء المترامية الأطراف. ولذلك فقد قيل بأن براعة العرب في علم الفلك ترجع قبل كل شيء إلى صلاحية بيئتهم الطبيعية لتطور هذا العلم، وقد حظي القمر بالمكانة الأولى في معرفتهم الفلكية، إذ كانوا يهتدون به وببقية النجوم في مسراهم الليلي، ولذلك لاحظوا منذ وقت مبكر علاقته بالمجموعات النجمية المتغيرة الواقعة قرب فلكه، وقد حددوا عدد منازلها بمائة وعشرين منزلًا أطلقوا عليها اسم "منازل القمر"، وأعطي لكل واحد منها اسم عربي خالص، كما عرفوا ما لا يقل عن مائتين وخمسين نجمًا إضافة إلى بعض الكواكب المهمة من بينها الزهرة وعطارد. ونتيجة لملاحظتهم السماء، ومراقبة نجوم معينة أمكنهم التنبؤ بحالة الطقس، وتحديد فصول السنة الملائمة، للزراعة "بالنسبة للمستقرين منهم"، وقد عرفوا ذلك باسم النوء "جمعها أنواء"، وقد انعكست هذه المعرفة بأمثلة كثيرة يتداولها الناس، منها:
"إذا طلع الدبران توقدت الحزان، ويبست الغدران وكرهت النيران واستعرت الذبان، ورمت بأنفسها حيث شاءت الصبيان".
"إذا طلع سعد السعود نضر العود، ولانت الجلود وكره في الشمس القعود".
"إذا طلع الدلو فالربيع والبدو والصيف بعد الشتو".
أما معرفتهم الجغرافية بمواقع وجهات الجزيرة، فقد انعكست في شعر الشعراء، فهناك أبيات تشتمل على وصف للمكان، كما تشتمل على أوصاف للعادات والتقاليد وللنبات والحيوان، فمن ذلك قول طرفة:
رأى منظرًا منها بوادي تبالة ... فكان عليه الزاد كالمقر أو أمر
أقامت على الزعراء يومًا وليلة ... تعاورها الأرواح بالسقي والمطر
وقول حسان بن ثابت:
لمن الدار أوحشت بمعان ... بين أعلا اليرموك فالخمان
فالقريات من بلاس فداريا ... فسكاء فالقصور الدواني
فقفا جاسم فأمودية الصفر ... مغنا قبايل وهجان
وكقول أمرؤ القيس:
لمن الديار عرفتها بسحام ... فعمايتين فهضب ذي أقدام1
وهكذا يتضح بأنه كان ثمة نوع من المعرفة الجغرافية، والفلكية البسيطة لدى العرب قبل ظهور الإسلام، غير أن ظهور الإسلام أدى إلى تطور جذري في تلك "المعرفة"، وقد تم هذا التطور بدفع من عوامل أساسية وثانوية أبرزها هي:
1- الاتصال بالفكر الأجنبي: انحصرت اهتمامات العرب الأولى بالثقافة اللغوية والدينية والتأريخية، وبعد اتصال الفكر العربي بالفكر اليوناني والهندي، والإيراني عن طريق الترجمة انكشفت للعرب ألوان جديدة من "المعرفة"، كان من ضمنها المعرفة الفلكية المنظمة والمعرفة الجغرافية.
2- اتساع الدولة الإسلامية: اتسعت الدولة الإسلامية في نهاية العصر الأموي، فشملت أقطارًا شاسعة من القارات القديمة الثلاث، آسيا وأفريقيا والطرف الجنوبي الغربي من أوروبا، وكان لا بد من تجميع المعلومات عن الأقطار الجديدة ليتيسر إدارتها، وحكمها حكمًا صحيحًا ومعرفة خراجها، ولا شك أن هذه هي الوظيفة الأساسية للجغرافية.
3- ازدهار النشاط التجاري: لقد رافق اتساع الدلة الإسلامية ازدهار النشاط التجاري في مراكزها الرئيسية، وقد لعب الازدهار التجاري دورًا أساسيًا، ومزدوجًا في إثراء المعرفة الجغرافية، فمن جهة تطلب الأمر اكتساب المعلومات عن الطرق، والمسالك المؤدية إلى الدول المختلفة، وهو أمر لا غنى عنه للتجار، فضلًا عن معرفة المدن التجارية الرئيسية، وما تشتهر به كل منها من سلع، ومن جهة أخرى تولى التجار ومستخدموهم مهمة جمع المعلومات البشرية والاقتصادية فضلًا عن الطوبوغرافية عن البلدان المختلفة، بل وأصبح التجار أنفسهم في بعض الحالات من الجغرافيين البارزين.
4- الفروض الدينية الإسلامية: ساهمت الفروض الدينية الإسلامية بنصيب كبير في تشجيع المعرفة الفلكية والجغرافية، فالصلاة والصوم يتطلبان معرفة جغرافية، وفلكية لضبط أوقاتهما في أنحاء الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، والحج يستثير همم المسلمين من شتى أقطار الدولة الإسلامية لشد الرحلة إلى مكة المكرمة، فضلًا عن الرغبة في اكتساب العلوم الدينية من منبعهما الرئيسين مكة المكرمة والمدينة المنورة، ولقد أتحف "الحج" الجغرافية العربية بالعديد من الرحالة الذين أضافوا بـ"رحلاتهم" ثروة نفيسة إلى جغرافية العصور الوسطى، وعلى رأسهم ابن جبير وابن بطوطة.
تلك هي العوامل الأساسية التي شجعت المعرفة الجغرافية في ميدان الثقافة العربية، وقد تفاوت تأثير تلك العوامل حسب الظروف التأريخية، كما تنوعت أنماط المصنفات الجغرافية تبعًا لذلك، فمنذ بدأ اهتمام العرب في صدر الإسلام بالأمور الثقافية، ولا سيما ما يتعلق منها باللغة العربية، أخذت تظهر طلائع المؤلفات الجغرافية، وكان مؤلفوها علماء لغة وأدباء أساسًا، ويمكن القول: إن العامل الأول المشجع على إزدهار هذا النوع من التأليف هو الاهتمام بجزيرة العرب -التي ظهر فيها النبي الكريم وصحبه- ومحاولة التعرف على كل ما يتصل بأرضها، وسمائها وحيوانها، ونباتها وبشرها، كما أنها كانت أيضًا وسيلة من وسائل دراسة اللغة العربية، والشعر العربي القديم، ولعل من أبرز المؤلفات المبكرة في هذا الميدان تلك التي تنسب إلى هشام بن محمد الكلبي "توفي حوالي 820م"، والذي ذكر له ابن النديم في كتابه "الفهرست"، وياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان" عدة تآليف جغرافية منها
"كتاب البلدان الكبير" و"كتاب البلدان الصغير" و"كتاب الأنهار"، و"كتاب
الأقاليم".. إلخ، ولكن كتبه قد فقدت بأجمعها ولم تصل إلينا، ويعتقد بعض البحاثة أن الحسن بن المنذر مؤلف "كتاب العجائب"، ربما كان هو نفسه الذي يشير ابن النديم إلى كتابه باسم "كتاب العجائب الأربعة"، فيكون عندئذ أول من كتب في الموضوعات الجغرافية العامة في الإسلام1.
كذلك كتب أبو زيد سعيد الأنصاري كتابًا في "المطر"، ضمنه مختلف المفردات اللغوية في المطر والسحاب والرعد والبرق، والندى والجمر وظروف تكون كل منها، وهناك أيضًا كتاب النضر بن شميل المسمى "كتاب الأنواء"، وكتاب عزام بن الأصبغ المسمى "كتاب أسماء جبال التهامة ومكانها"، وكتاب الجاحظ المسمى "كتاب البلدان"، أو"كتاب الأمصار والبلدان".. إلخ. واستمر هذا النمط من الكتابة الجغرافية ذات الصفة الأدبية واللغوية في القرون التالية أيضًا، كما تمثل في كتاب "الجبال والأمكنة والمياه"، لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، وغيره من المؤلفات، ولكن لا بد لنا من القول: إن تلك المؤلفات هي ليست من الجغرافية الحقيقية بشيء، وإنما هي إرهاصات جغرافية، وقد اشتمل البعض منها على أوصاف عامة للبلدان أقرب إلى الحكميات اللغوية من النمط الذي أطلق عليه اسم "الفضائل"، والتي اعتبرها بعض البحاثة طلائع الكتابة الجغرافية، والعربية الوصفية.
وانتقلت الجغرافية العربية منذ بداية النصف الثاني من القرن الثالث الهجري "التاسع الميلادي" إلى مرحلة جديدة، وهي المرحلة التي اتصل أثناءها الفكر العربي بالفكر الأجنبي، فقد أكب المترجمون على ترجمة ثمار الفكر الهندي واليوناني إلى اللغة العربية، وقد شهد هذا العصر تأثرًا عظيمًا بالمعرفة اليونانية -الرومانية، ولا سيما بآراء بطليموس في الفلك والجغرافيا، وبدأت بالظهور مؤلفات جغرافية تنحو منحى كتابي بطليموس "المجسطي" و"الجغرافيا"، وهي من نوع النمط المسمى بالجغرافية الرياضية، أو الجغرافية الفلكية، ولعل أبرز مثال عليها كتاب "صورة الأرض" للخوارزمي، وكتاب "رسم المعمور من الأرض" للكندي، وقد ركزت هذه المرحلة من تأريخ الجغرافية العربية على علم الفلك، فقد أصبح هذا العلم في ذلك العصر هوس الحكام والعلماء، ولا ريب أن التشجيع الذي حظي به هذا العلم من قبل الخلفاء العباسيين منذ عهد المنصور، والذي بلغ ذروته على يدي المأمون، كان المسؤول الأول عن ازدهار هذا النوع من المؤلفات الجغرافية، التي يمكن اعتبارها بداية الجغرافية الحقيقية.
ثم إن توطد أركان الدولة الإسلامية في مساحة مترامية الأطراف من العالم القديم، قد خلق ظرفًا جديدًا، وحاجة ماسة إلى معرفة الطرق الكبرى التي تربط أقاليم الدولة الإسلامية بعضها ببعض، فضلًا عن توافر معلومات جديدة عن أقطار غير عربية بسبب الفتوحات، مما أدى إلى انبثاق المصنفات الجغرافية الحقيقية التي تستحق اسمها بجدارة وهي كتب "المسالك والممالك"، أو ما يمكن أن نعتبره كتابات "الجغرافية الأقليمية"، أو"الجغرافية البلدانية" على نحو أدق. وكان رائد أولئك الجغرافيين البلدانيين هو ابن خرداذبه في كتابه "المسالك والممالك"، ويعتقد البعض أن جعفر بن أحمد المروزي ربما كان قد سبق ابن خرداذبه في هذا النوع من التأليف، كما يعتقد آخرون أن أحمد بن محمد الطيب السرخسي، ربما كان هو الرائد في هذا النمط في التأليف الجغرافي، غير أن من المتعذر قبول هذين الرأيين نظرًا؛ لأننا لا نعرف شيئًا عن طبيعة كتابي السرخسي، والمروزي سوى الإشارة إليهما في كتاب "الفهرست" لابن النديم. وهكذا توطدت أركان هذا النمط الجديد من الكتابة الجغرافية منذ بدء القرن الرابع الهجري بظهور كتب جغرافية أكثر نضجًا، وأكثر تخصصًا تدرس على نحو الخصوص "بلاد الإسلام"، وكان من أبرز مؤلفيها البلخي والاصطخري، وابن حوقل والمقدسي، وكان من مظاهر التزام مؤلفي تلك الكتب بالمنهج الجغرافي، أنهم اشترطوا أن تشتمل النصوص الجغرافية على "خرائط" للأقاليم تكون جزءًا أساسيًا من النص، ولم تعد هذه المؤلفات تعني بالمعلومات اليونانية المتعلقة بالأرض، وحجمها وأقاليمها السبعة، وابتعدت ابتعادًا كبيرًا عن النهج الرياضي، حتى يمكن القول: إنه حدث انشطار واضح في هذا العهد بين المصنفات الفلكية، والمصنفات الجغرافية. والواقع أن هذه المرحلة من مراحل الجغرافية العربية التي امتدت منذ بداية القرن الرابع الهجري، حتى أوائل القرن السادس الهجري تمثل قمة ما وصلته الجغرافية العربية، من ازدهار، كما أنها تمثل الشخصية الحقيقية للجغرافية العربية الأصيلة. وكانت معلومات كتابها تعتمد بالدرجة الأولى على الدراسة، والمشاهدة الميدانية، والاختبار الشخصي مما جعلها ذات ثقة وكفاءة عالية، ولم يكن غالبية كتابها1 في الحقيقة سوى رحالة علميين، ويمكن القول: إن "الرحلة" كانت هي الأساس في هذا النوع من الكتابة، والواقع أن ازدهار هذا النمط الجديد من الكتابة العربية كان ثمار ظروف الدولة الجديدة كما أشرنا، فقد كان اتساع رقعة الدولة الإسلامية يتطلب معلومات جديدة عن تلك البلدان النائية وشعوبها، فلا بد للحكم المسلمين من أن يتعرفوا على طبائع السكان وتقاليدهم، وعلى انتاج البلاد الزراعي والصناعي، وثرواتها ليمكن تقدير خراجها، كما لا بد لهم من التعرف على أسماء مدنها، والطرق المؤدية لها. وقد استفاد المؤلفون الأوائل كابن خرداذبه، وقدامة بن جعفر من وظائفهم الإدارية في جمع المعلومات عن البلدان النائية، أما المؤلفون الآخرون فقد استفادوا من إمكانات السفر الجديدة التي سادت رقعة واسعة من العالم القديم، هي رقعة العالم الآسيوي، تلك الإمكانات التي تتمثل باتساع شبكة طرق المواصلات، وتوفر درجة معقولة من الأمن فيها، فأخذوا يشدون الرحال.
ويطوفون في البلدان شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوًبا، وكانوا يشعرون في أي بلد يحلون فيه كأنه بلدهم، وأمكن لأولئك الجغرافيين أن يجمعوا معلومات جديدة عن ممالك الإسلام عن طرق المشاهدة الشخصية، والسؤال والاستقصاء، الأمر الذي لم يكن مهيأ للجغرافيين السابقين، ولم يعتمد أولئك الكتاب على أنفسهم فحسب في جمع المعلومات، بل ساهم التجار في إغناء معلوماتهم مساهمة عظيمة، ولعبت التجارة دورًا هامًا في تطوير المعرفة الجغرافية لرواد هذه المدرسة.
ويعود الفضل إلى هؤلاء الجغرافيين الأقليميين في تشجيع كتاب آخرين -لم يكونوا جغرافيين أساسًا- على الاهتمام بالمعرفة الجغرافية، ونشرها في كتاباتهم بصورة غير منهجية، وكانت تلك الكتابات هي أقرب إلى الكوزموغرافيا منها إلى الجغرافيا الصرفة، فهي تبحث في أخبار البلدان، وقد تميل إلى الاهتمام بعجائبها، كما تشتمل على كثير من المعلومات المتنوعة عن البحار، والمناخ والكواكب والأحجار النفيسة والحيوان والنبات، وكان يكتب هذا النوع من الكتابات كتاب ذوو اختصاصات متعددة، لكن غالبيتهم كانوا من المؤرخين، ويمكن القول: إن المسعودي كان على رأس هذا النمط من الكتابة، كما يعتبر ابن رسته أيضًا أحد روادها المبكرين، والحقيقة أن الجغرافية العربية بدأت أساسًا أشبه بالكوزموغرافيا منها بالجغرافيا فيها تؤكد عليه من عجائب الأرض والكون.
وبتفكك الدولة الإسلامية، وانحلالها سياسيًا فقدت المعرفة الجغرافية الصرفة أصالتها منذ بدء القرن السادس الهجري، فقد انصرف الحكام عن تشجيع العلم، وتقلصت رقعة الدولة الإسلامية، وانقسمت إلى إمارات شبه مستقلة، ولم يعد هناك من حاجة إلى الكتب الجغرافية بالنسبة للحكام، ولم يستطع الكتاب اللاحقون أن يضيفوا أي جديد إلى العلم الجغرافي العربي، واقتصروا على مهمة "الاقتباس" من مؤلفات السابقين، وتنوعت الأنماط الجغرافية لهذه المرحلة، إلا أن التركيز فيها كان على "المعاجم الجغرافية" و"الموسوعات" و"الرحلات".
فأما "المعاجم الجغرافية" فكانت سمة ذلك العهد، ويمكن القول: إنها تمثل الصلة بين اللغة العربية والجغرافية، وقد ازدهرت بسبب حاجة القراء الذين كانوا يجدون صعوبة في فهم التسميات الواردة في الشعر القديم، أو في الحديث أو القصص القديمة1.
وكانت أمثال تلك المعاجم ذات فائدة عملية واضحة بالنسبة لرجال الإدارة، كما أنها كانت ذات فائدة كبرى للباحثين عن المعرفة نظرًا؛ لأنها كانت تعالج مختلف نواحي الثقافة في ذلك العصر، ومن أبرز الأمثلة عليها "معجم البلدان" لياقوت الحموي و"الروض المعطار" للحميري، و"معجم ما استعجم" للبكري.
أما "الموسوعات"، فكانت أهم الآثار الكتابية للقرن الثامن الهجري "الرابع عشر الميلادي"، وكان يفرد فيها دائمًا للمعلومات الجغرافية حيزًا هامًا، ويعتقد كراتشوفسكي أنها تنتمي إلى طراز مصري صرف من المؤلفات الوصفية، التي وضعها عمال حكومة عصر المماليك، وأن مؤلفيها لم يروا في أنفسهم علماء، بل كتابًا من موظفي ديوان الإنشاء كل زادهم هو بعض الخبرة في الشؤون الكتابية، ولذلك فقد عملت في الأصل من أجل كتبة الدواوين الذين كانوا يمثلون الطبقة المتعلمة في الجهاز الكتابي، والإداري لمصر يومذاك، إلا أنها اجتذبت جمهورًا واسعًا من المثقفين، ولذلك فإن معلوماتها الجغرافية ترتبط بتلك الكتابات التي وضعت في الإدارة الجغرافية في أواخر القرن الثالث، والرابع الهجري2، ولم تكن تشتمل في أي حال على المعلومات الجغرافية فحسب، بل كانت تشتمل أيضًا على المعلومات التأريخية والثقافية بشكل عام.
ولقد قوي في هذه المرحلة من تاريخ الجغرافية العربية الاتجاه العجائبي، أو الأسطوري في الكتابات الجغرافية. وبالرغم من أن آثاره المبكرة
قد ظهرت لدى ابن الفقيه الهمذاني وغيره، فقد أصبحت الطابع السائد للكتابة الجغرافية في هذا العهد، والتي كان خير من يمثلها أبو حامد الغرناطي، والقزويني والدمشقي وابن الوردي، وقد مزج هذا الاتجاه بين العلم والخرافة، وتناول كتابه وصف مختلف ظواهر الكون، وركزوا في كتاباتهم على ذكر عجائب الطبيعة
من نبات وحيوان، وظواهر جغرافية وبشرية، وكانت معلوماتهم تخرج عن حدود المنطق والعلم أحيانًا إلى حدود الأسطورة والخرافة، والواقع أن هذا الاتجاه قد انحدر بالجغرافية انحدارًا سريعًا حتى لم تعد تحتفظ بنكهتها العلمية القديمة، وتحولت إلى ما يشبه الحكايات والقصص، وإن لم تخل بالطبع من معلومات جغرافية قيمة، ولا ريب أن أولئك الكتاب كانوا يرضون بكتاباتهم تلك جمهرة واسعة من القراء ذوي الثقافة الضحلة، وهو ما يمثل مستوى الثقافة في ذلك العصر.
وازدهرت في هذه المرحلة من تاريخ الجغرافية العربية أيضًا "الرحلات"، إلا أنها اتخذت نمطًا مايرًا لما عهدناه في فترة القرن الرابع الهجري، إذ إن "الرحلات" الجديدة كانت ذات طابع أدبي عمومًا، وذات صفة إخبارية، وقد لعب العامل الديني دورًا رئيسيًا في تشجيع هذا النمط من الكتابة الجغرافية، فقد كان دافع أغلب كتاب "الرحلات" حج بيت الله الحرام، فتهيأت لهم الفرصة بذلك لزيارة بلدان عديدة من ديار الإسلام، فدونوا عنها مشاهداتهم، وقد ركز هؤلاء الرحالة عمومًا على ذكر المشاهد الدينية، والمزارات والمساجد، كما اهتموا اهتمامًا خاصًا بقليا علماء الدين والزهاد والمتصوفين، وقد وردت في كتاباتهم المعلومات البشرية والاقتصادية، وكذلك المعالم الطوبوغرافية للمدن والبلدان التي زاروها بصورة عرضية.
وبالرغم من ذلك فقد حفلت بعض تلك الرحلات بمعلومات أثنولوجية واقتصادية قيمة، وتعتبر "رحلة ابن جبير" أفضل نموذج لهذا النمط من الكتابة الجغرافية، غير أن "رحلة ابن بطوطة" تتفوق عليها فيما اشتملت عليه من معلومات عن أقطار آسيا الوسطى والجنوبية، والجنوبية الشرقية.
واشتهرت كذلك "رحلة العبدري" و"رحلة الهروي".
ومنذ القرن الخامس عشر الميلادي بدأت شمس الجغرافية العربية بالأفول، ولم تظهر خلال ذلك القرن باللغة العربية، سوى مصنفات تنتمي إلى النمط الذي يمكن تسميته بـ"الجغرافية الملاحية" أو"الجغرافية البحرية"، والتي كان أبرز كتابها ابن ماجد في كتابه المعروف "الفوائد في أصول علم البحر والقواعد"، والذي اشتمل على اثنتي عشرة فائدة، تتناول الجانبين العلمي والنظري لفن الملاحة، وخصوصًا في البحر الأحمر والخليج العربي والمحيط الهندي، وكذلك سليمان المهري الذي كان معاصرًا لابن ماجد، والذي اشتهر بكتابه "العمدة المهرية"، الذي يعتبر من أهم الكتب الملاحية.
ولما كان القرن السادس عشر قد شهد بروز دولتين قويتين في الشرق الأوسط، هما الدولة العثمانية والدولة الفارسية، واضمحلال الحكم العربي، فقد اختفت الكتابات الجغرافية العربية، وحل محلها كتابات جغرافية باللغة التركية، واللغة الفارسية، ولكنها لم تكن كتابات من الطبقة الأولى، فأما بالنسبة للكتابات الفارسية، فقد بدأت تتنامى منذ القرن الرابع عشر، حيث اشتهرت مؤلفات من أمثال كتاب "نزهة القلوب" لحمد الله مستوفي القزويني، و"جامع التواريخ" لرشيد الدين و"صور الأقاليم السبعة" لمحمد بن يحيى، وكتاب حافظ آبرو. وكتاب عبد الرزاق المسمى "مطلع السعدين ومجمع البحرين"، وأما المؤلفات باللغة التركية، فقد تنامت منذ القرن السادس عشر، ولعل من أبرزها كتاب "تأريخ سياح" لأوليا جلبي، وكتاب "كشف الظنون" لحاجي خليفة، وكتاب "بحريت" ليبري رئيس إلخ.. غير أن أمثال تلك المؤلفات لا تعنينا في هذا البحث نظرًا؛ لأنها كتبت بلغة غير عربية، وبالرغم من أن التراث الجغرافي العربي قد أمده كتاب من شعوب إسلامية متعددة، إلا أنه قد كتب بلغة عربية، وكان جزءًا لا يتجزًا من الثقافة والحضارة العربية.
__________
1 الهمذاني "الحسن بن أحمد" -صفة جزيرة العرب. طبع في ليدن عام 1938، ص173-175.
1 دائرة المعارف الإسلامية "الترجمة العربية" -المجلد السابع. [مادة جغرافيا]- ص11.
1 د. نقولا زيادة- الجغرافية والرحلات عند العرب. دار الكتاب اللبناني، بيروت 1962 ص12.
1 د. عبد الرحمن حميدة- أعلام الجغرافيين العرب. "الطبعة الثانية". دمشق 1980، ص68.
2 أغناطيوس كراتشكوفسكي "ترجمة صلاح الدين هاشم"، تأريخ الأدب الجغرافي العربي. منشورات الجامعة العربية، الجزء الأول، القاهرة 1961، ص405.