[b]
الفصل الأول: الدولة ومقوماتها الجغرافية
مدخل
...
الفصل الأول: الدولة ومقوماتها الجغرافية:
تعد الدولة المكون الأساسي للنمط السياسي العالمي كما أنها تعد وحدة جغرافية سياسية ذات تركيب متعدد الملامح يجعلها ظاهرة فريدة بالنظر إلى مكوناتها الطبيعية التي تتمثل في مجالها الأرضي وفي العلاقات المترتبة على شغل الإنسان لهذا المجال الأرضي لتلك الدولة ذات الحدود السياسية الواضحة والعلاقات القائمة بين تلك الدولة والمناطق السياسية الأخرى في العالم.
ويمكن تقسيم الأسس الجغرافية المؤثرة والمحددة للتركيب السياسي للدولة إلى مجموعات رئيسية هي الأسس والمقومات الطبيعية ثم الأسس والعوامل الحضارية، ومن البديهي أن تختلف الدول فيما بينها في كل عنصر من هذه العناصر فبعضها عملاق المساحة والآخر قزمي في كليهما. كذلك فإن هناك دولا غنية في مواردها ومتقدمة في استغلال هذه الموارد وأخرى تعاني النقص في الموارد والاستغلال مما ينعكس على اقتصادها الوطني المتواضع ومستوى العيش المتدني لسكانها.
وينقسم سطح الأرض اليابس -باستثناء قارة انتاركتكا- إلى ما يزيد على 190 وحدة سياسية الغالبية العظمى منها مستقل ولكل من هذه الوحدات السياسية تركيب حكومي مركزي ويفصلها عن جيرانها حدود سياسية صارمة تمثل الإطار النهائي للإقليم الذي تمارس عليه الحكومة سيادتها وسيطرتها، وحتى يمكن فهم دور الأسس الجغرافية والتفاعل بينها في خلق ملامح شخصية الدولة فإنه ينبغي تناولها في ضوء العناصر الطبيعية والبشرية ومدى التفاعل بينها لخلق عناصر القوة أو الضعف في الدولة.
الأسس والعوامل الطبيعية
مدخل
...
أولا: الأسس والعوامل الطبيعية
تشمل هذه الأسس الخصائص الطبيعية للدولة وهي الموقع والحجم والشكل والمناخ ومظاهر السطح ومصادر المياه وموارد الثروة المعدنية وهذه الخصائص الطبيعية منفردة أو مجتمعة تفرض حدودا على النشاط البشري داخل منطقة محدودة كما تتيح للإنسان مجموعة من الاختيارات يختار منها ما يلائم حياته وتوفر له بعض مظاهر نشاطه البشري كما هي الحال في موارد البترول في منطقة الخليج العربي والتربة الخصبة في أوكرانيا ومصايد الأسماك في المياه المجاورة لأيسلنده وكذلك رواسب الفحم في ألمانيا التي ساعدت على التقدم الصناعي بها وتنمية قدراتها الاقتصادية، ومن الخصائص الطبيعية الموقع مثل موقع بنما في البرزخ الموصل بين الأمريكتين وبيئة الجزر اليابانية والمناخ غير الملائم للسكان في جرينلند وما شابه ذلك من خصائص ذات أهمية خاصة في وظائف الوحدات السياسية.
1- الموقع:
يعد الموقع عنصرا هاما من الخصائص الطبيعية للدولة سواء كان بالنسبة لخطوط الطول ودوائر العرض أو بالنسبة لليابس والماء أو بالنسبة للدول الأخرى أو حتى بالنسبة للموارد الطبيعية خارج حدود الدولة ذاتها، والموقع الفلكي يعد هاما في تحديد النطاق المناخي الذي تنتمي إليه الدولة أو جزء منها، ومن الواضح أنه ما من دولة تقع كلية في الأقاليم المدارية المطيرة والقطبية قد نجحت في العصر الحديث في أن تكون قوة سياسية ذات أثر عالمي والسبب الرئيسي وراء ذلك هو المناخ وما يترتب عليه من أنشطة بشرية.
وكذلك يرتبط بالموقع وقوع موارد الفحم بين دائرتي عرض 40 - 60 درجة شمالا ومن ثم توفرت للدول في هذا النطاق قاعدة هامة للتصنيع كما يرتبط بذلك موقع الدول بالنسبة للمسطحات المائية لما لهذا الموقع من تأثير على المناخ واستغلال البحار والمحيطات في أوجه النشاط التجاري والتوسع الاقتصادي والسياسي، -ولعل في موقع بريطانيا خير دليل على ذلك- ويعد الوصول للبحر هدفا ذا فوائد متعددة تسعى الدول باستمرار للوصول إليه ولذلك فإن دول العالم يمكن أن تقسم حسب الجبهات البحرية فبعض الدول له أكثر من جبهة بحرية حيث يطل على أكثر من بحر مثل الولايات المتحدة وفرنسا، وبعضها مغلق تماما مثل بوليفيا والنمسا حيث لا تصل حدودها إلى أية بحار.
والموقع بالنسبة للدول المجاورة يعد من أهم الأمور المتعلقة بالموقع، فالحدود التي تصل بين الدولة وجيرانها والمنازعات الإقليمية التي تترتب عليها تعد ذات أهمية كبرى في التطور السياسي للدولة فكانت المشكلات الإقليمية لبولنده مع جيرانها مثلا عنصرا هاما في تاريخ الدولة كوحدة قومية كذلك فإن حدود بلجيكا ظلت ثابتة منذ سنة 1839 بالرغم من وقوعها ضحية للغزو الألماني الموجه نحو فرنسا مرتين كما أن تاريخ كوريا السياسي تأثر بموقعها شبه الجزري بالنسبة لليابان والصين.
وليس هناك صعوبة في معرفة عدد الدول المجاورة لكل دولة في العالم فيكفي النظر إلى خريطة العالم السياسي لإدراك ذلك، يمكن عمل تبويب يوضح عدد جيران كل دولة ثم تجمع الدول ذات العدد المتساوي من الجيران كما توضح الأرقام التالية التي تشمل أكبر مائة دولة من حيث عدد السكان في العالم.
وأكثر الدول من حيث عدد الجيران هي ما يلي:
دول ذات 12 جارا الاتحاد السوفيتي والصين.
دول ذات 10 جيران البرازيل.
دول ذات 9 جيران ألمانيا الغربية وزائير.
دول ذات 8 جيران السودان وتنزانيا.
دول ذات 7 جيران يوغسلافيا وزامبيا ومالي والنيجر.
ومن ناحية أخرى فهناك 9 دول ليست لها جيران وهي الدول الجزرية مثل كوبا واليابان ومالاجاش.
ولا تتحدد أهمية الموقع في عدد الجيران فقط بل بمجموع عدد سكان الدول المجاورة للدولة وما يترتب على ذلك من علاقات تحكمها نسبة عدد سكان الدولة إلى مجموع سكان الدول المجاورة فدولة مثل سويسرا "6 ملايين نسمة" يجاورها ألمانيا الغربية "58 مليونا" وفرنسا "50 مليونا" وإيطاليا "52مليونا" والنمسا "7 ملايين" أي أن النسب بين سكانها وسكان الدول المجاورة هي 6: 167 أو 1: 28 وكذلك الحال في جمهورية أيرلنده ذات الثلاثة ملايين مقابل 55 مليون في بريطانيا، جارتها الوحيدة. أي النسبة 1/ 18 ومن وجهة نظر بريطانيا فإن النسبة 55: 3 اي حوالي 18: 1 وهذه النسب هي مقاييس لإمكانيات الضغوط الكامنة والشعور الدفين بتهديدات محتملة سواء من جانب الساسة أو حتى الشعوب. فتشيكوسلوفاكيا مثلا بسكانها البالغ عددهم 14 مليونا تواجه 360 مليونا "بما فيهم سكان الاتحاد السوفيتي وألمانيا الغربية" حيث تصل نسبتها إلى 1: 26، حتى إن الاتحاد السوفيتي نفسه تنخفض نسبته في مقابل الصين لتصبح 1: 4 وتصل النسبة بين سكان إسرائيل والدول العربية الأربعة المجاورة لها إلى 1: 14 أما جمهورية منغوليا الشعبية واحد مليون فتجاور الصين "920 مليونا" والاتحاد السوفيتي "236 مليونا" فلها نسبة قياسية تصل إلى 1: 1100 وهذا قدر الدولة الحاجزة دائما.
2- الحجم:
يعد هاما للدولة وذلك بالنسبة لسيطرتها السياسية والدفاعية وكلما كانت الدولة تملك مساحة أكبر تمكنها من التراجع أمام قوات الغزو كلما كان ذلك أفضل في توفر فرصها على الصمود والبقاء كما حدث للاتحاد السوفيتي أثناء الحرب العالمية الثانية الذي استغل مساحته الشاسعة في مواجهة الغزو الألماني. كذلك فإن الحجم الكبير يسمح بانتشار السكان والصناعات كأهداف حيوية داخل البلاد. ومن ناحية أخرى فإن ضخامة الحجم يعني حدودا أطول تتطلب جهودا أكثر من الدفاع الأرضي والبحري والجوي. كما أن هذه الضخامة قد تؤثر على فعالية السيطرة الداخلية وقد يضعف الاتصال بين العاصمة والمناطق البعيدة مما يشجع على إمكان وجود حركات انفصالية في الأقاليم الهامشية للدولة.التطرف في أحجام الدول "المساحة بالكيلو متر المربع"
3- الشكل:
وهو من العناصر ذات الأهمية في الدفاع والسيطرة السياسية فالدولة الضيقة -دون اعتبار لكبر مساحتها- تواجه صعوبات ومشقة في الدفاع أكثر من الدولة المندمجة، كذلك فإنه بالنسبة للتماسك السياسي الداخلي فإن الشكل الدائري ذي العاصمة المركزية في الوسط يعد ذا فائدة كبرى حيث إن المسافات بين العاصمة والمناطق الهامشية في الدولة أقل مما يمكن.
ويرتبط بالشكل بعض الظاهرات الأرضية السياسية مثل الجيب السياسي والنتوء الجبلي السياسي والقطاع السياسي ورأس الكوبري، والجيب السياسي جزء من مساحة دولة ما ويحاط كلية بأراضي دولة أخرى، وفي معظم الأحوال فإن تعبيري Enclave, Exclave يستخدمان كلفظين متبادلين فبرلين الغربية مثلا هي جيب سياسي داخل ألمانيا الشرقية كما أنه جيب سياسي خارج ألمانيا الغربية وكثير من هذه الجيوب بقايا تاريخ سياسي مضى أو كمناطق ذات وضع خاص في أعقاب حرب بين دولتين أو أكثر.
أما النتوء الجبلي السياسي فهو امتداد السيطرة الإقليمية لدولة ما عبر حدود جبلية، وكان النتوء النمساوي الجبلي في التيرول الجنوبية قبل الحرب العالمية الأولى من أشهر هذه النتوءات السياسية وكان يمتد جنوب ممر برنر الذي يعبر جبال الألب ويسكنه سكان ناطقون بالألمانية وبعد الحرب العالمية الأولى ضمت إيطاليا التيرول الجنوبي وإن كانت مشكلة السكان الناطقين بالألمانية لم تحل حلا مرضيا بعد.
وهناك ظاهرتان أخريان ترتبطان بالتطرف في شكل الدولة هما القطاع السياسي ورأس الكوبري، والقطاع هو امتداد ضيق لدولة ما ويمتد فاصلا بين دولتين أخريين إحداهما عن الأخرى مثل البروز السياسي الأفغاني المشهور بين الاتحاد السوفيتي والباكستان أما رأس الجسر "الكوبري" فهو امتداد للسيطرة الإقليمية لدولة ما عبر نهر ما ومن أمثلة ذلك رأس الجسر الهولندي عبر نهر الميز عند ماسترخت حيث تدخل السفن البلجيكية التي تستخدم الميز أراضي هولندية وتخرج منها عند هذه النقطة من النهر.
وهناك دول عديدة في العالم مثل شيلي والنرويج تتميز بالطول المفرط والعرض الضيق وكانت بنما يوما ما امتدادا شماليا ضيقا لكولومبيا وانفصلت عنها في أوائل القرن العشرين ليس بسبب تطرف موقعها ولكن لأنها شقت قناة ملاحية ربطت المحيط الأطلسي والهادي، وقد رفضت كولومبيا في بداية الأمر أن تقوم الولايات المتحدة بإنشاء هذه القناة، وليس للشكل دور مباشر كبير في الوظيفة السياسية للدولة ولكن قد يكون له أهمية غير مباشرة من خلال تأثيره على اتصال الدولة بأجزائها كما حدث في حالة انفصال باكستان الشرقية عن الغربية، وخاصة إذا كانت هذه الأجزاء المتطرفة متباينة في ظروفها الجغرافية بدرجة تخلق نوعا من النزعة الانفصالية.
4- المناخ:
يؤثر في التطور السياسي وإن كان من الصعب تحديد دوره بمفرده حيث إن المؤثرات المناخية لا يمكن فصلها عن العوامل الطبيعية والحضارية الأخرى فقد نشأت الحضارة وانتشرت خلال القرون الماضية في الأقاليم ذات المناخ الدافئ والبارد نوعا أما في العصر الحديث فإن القوى العالمية العظمى تقع في العروض الوسطى حيث تتميز باختلافات فصلية في درجة الحرارة، كما تتباين بها الأقاليم المناخية تباينا كبيرا.
ولقد تناولت آراء كثيرة المناخ الأمثل في العروض الوسطى ولا شك أن البرودة الموسمية والغابات في العروض العليا كانت عوائق في سبيل الانتشار المبكر للحضارات في الشمال -من مواقعها المدارية- واستطاع الإنسان في العصر الحديث بوسائل التقدم الفني أن يتغلب على عوائق البيئة الطبيعية، ومن المؤكد أن جذور الحضارة الغربية التي نعرفها اليوم تمتد إلى العالم اليوناني - الروماني ولكنها تطورت بعد ذلك في النطاق الشمالي الغربي لأوروبا الذي أزيلت غاباته ثم امتدت لتشمل الأراضي الجديدة في العالم الجديد ومن المعروف أن تطور حضارة معينة يرتبط بالقوة السياسية والعسكرية والاقتصادية للوحدة السياسية وتوفر العوامل الجغرافية التي تساعد على ذلك.
وعندما انتشرت الحضارة خارج مركزها في شمال غرب وشمال وسط أوروبا فإنها تأسست في تلك الأجزاء من العالم ذات المناخات الرطبة في العروض الوسطى -مشابهة للمناخ الذي وفدت منه في أوروبا، ولم تستطع المناخات المدارية الرطبة أو الواحات الصحراوية وأراضي الحشائش القصيرة "الإستبس" ولا الأصقاع الشمالية أن تجذب استقرار الشعوب الأوروبية إلى هذه الأراضي، حيث وفدوا إلى هذه المناطق للاستغلال وليس الاستيطان.
وحتى في استعمار الأقاليم الرطبة في العروض الوسطى فإن الأهداف الرئيسية للأوروبيين كانت أساسا استغلالية ولكن استغرق ذلك فترة قصيرة وفي تلك المناطق مثل كندا واستراليا والولايات المتحدة ونيوزيلند فتح الاستغلال الطريق نحو الاستيطان الدائم.
ويعد الموقع الحالي للمجتمعات الصناعية الغربية في العالم نتاجا للتفضيل البشري أكثر منه نتاجا لحدود كامنة في مناخات معينة. حيث فضل الأوروبيون أن ينقلوا حضارتهم إلى مناطق ذات مناخ العروض الوسطى وهذه الحضارة باستخدامها العظيم لمصادر الطاقة لديها وخلفياتها في المكتشفات التكنولوجية قد أسهمت في وجود أساس لدى القوى العالمية المعاصرة وفي خلال العقود العديدة الماضية كانت هناك عملية انتشار للحضارة الغربية نحو مناطق جديدة في كل العروض الوسطى والدنيا والحالة الأخيرة أي انتشار الحضارة الصناعية الغربية في المناطق شبه المدارية بقدراتها على التقدم ترتبط بمجموعة متشابكة من العوامل التي تسهم في القوة السياسية.
وبالإضافة إلى المؤثرات المناخية على توزيع مناطق القوى في العالم فإن هناك علاقات بين المناخ والتركيب السياسي للدول بمفردها وخاصة الآثار المترتبة على التنوع المناخي وأثره في القوى السياسية أو التباين في داخل الدولة ويرتبط توزيع السكان في داخل الدول بأنماط المناخ البارد أو الجاف أو الرطب أو المداري حيث يكون السكان مبعثرين في الغالب وهذا في حد ذاته عامل يؤدي إلى التعقيد السياسي للدولة وفي داخل الدولة يوجد ما يعرف بالاكيومين وهو الذي يعرف بأنه أكثر أقاليم الدولة الآهلة بالسكان وخاصة ذلك الجزء الأكثر ارتباطا بخطوط المواصلات وغالبا ما تكون المدينة العاصمة واقعة في الاكيومين أو قريبة منه حيث تتركز القوى السياسية والاقتصادية. وإذا كان السكان مركزين في منطقة محددة وصغيرة بالنسبة لمساحة الدولة كما هو الحال في الصين فإن جزءا كبيرا من هذه المساحة يمكن أن يكون غير ذي تنظيم فعال وقد تنفصل بعض أجزائه عن سيطرة العاصمة إذا ضعفت الحكومة المركزية، ومن ناحية أخرى فقد يوجد في داخل الدولة مركزين أو أكثر للسكان كما في بوليفيا تفصلهم مناطق مخلخلة السكان ويؤدي ذلك إلى وجود قوى مركزية قوية.
وتؤدي الاختلافات المناخية إلى تباين اقتصادي في الدولة مما قد يترتب عليه نزاع المصالح كما كان الحال بين الشمال والجنوب في الولايات المتحدة قبل الحرب الأهلية حيث كان الجنوب بمناخه الرطب شبه المداري معتمدا كلية على الاقتصاد الزراعي واستخدام الرقيق في الوقت الذي لم يتمتع فيه الشمال بمثل هذا النمط الاقتصادي من ناحية أخرى فإن الاختلافات الاقتصادية يمكن أن تساهم في الوحدة الوطنية كما في استراليا مثلا التي وجدت الوحدات الإقليمية مزايا في الدخول في وحدة سياسية مفردة.
5- مظاهر السطح:
ونعني بها الجبال والهضاب والتلال والسهول وهي ذات أهمية عظمى للتركيب السياسي الجغرافي للدولة فقد ينزع سكان الجبال نحو العزلة والحصول على نوع من الاستقلال "أفغانستان واندروا" بينما سكان السهول مثل الأكرانيين قد يتعرضون لتدخل خارجي ومن ثم يكون لديهم فرصة قليلة للحكم الذاتي كما أن وجود سلاسل جبلية على حدود الدولة يمكن أن يساعد على الدفاع ضد الجهات الخارجية من جيرانها ومن ثم يساعد على استقلالها فجبال البرانس بين فرنسا وإسبانيا والألب بين إيطاليا والنمسا هي أمثلة من هذا النوع التي لعبت دورا في النزاع العسكري بين الدول المتجاورة. وقد تلجأ بعض جماعات الفدائيين إلى المناطق الجبلية كما حدث في يوغوسلافيا أثناء الحرب العالمية الثانية وأيضا في شمال اليونان وكما حدث لقوات كاسترو في كوبا وفي كل هذه المناطق الجبلية الوعرة كانت السيطرة الفعالة للحكومة المركزية صعبة بل وأحيانا مستحيلة.
وهناك أحوال متعددة تؤثر فيها أشكال السطح في الوحدة الداخلية للدولة فالمناطق المرتفعة أو المنخفضة تؤثر على توزيع السكان تأثيرا كبيرا ومن ثم على موقع منطقة القلب للدولة فقد يعوق امتداد السلاسل الجبلية الاتصال بين العاصمة ومناطق الأطراف إذا كانت هذه الجبال فاصلا بينهما ونتيجة لذلك يضعف التماسك السياسي بين أجزاء الدولة. كذلك فإن الجماعات البشرية التي تقطن المرتفعات الجبلية قد تنتشر لديها أفكار وأهداف مختلفة أكثر مما لدى البيئات المنخفضة ومن ثم تخلق قوى سياسية مناوئة داخل الدولة فإكوادور مثلا توجد بها مناطق تركز في المنخفضات أو في المرتفعات ولكن المركز الرئيسي كيتو "العاصمة" في الجبال وهناك مراكز أخرى مثل جوايا كيل على الساحل توضح تضارب المصالح بين مناطق الجبال والمنخفضات داخل الدولة.
6- المجاري والمسطحات المائية:
وهي تعد ذات أهمية خاصة للدولة فالأنهار غالبا ما تكون عوامل وصل وتماسك داخل الدولة كما في نهر النيل ونهري الدجلة والفرات في العراق ومجدالينا في كولومبيا الوسطى وقد يكون للبحار دور مشابه، فعلى امتداد شواطئ بحيرة مالارن تكونت نواة سايسية نما حولها جنوب السويد مبكرا حول استكهلم كما تشابه في ذلك إلى حد ما سويسره كما حول بحيرة لوزرن ويمثل البحر عنصرا موحدا في الدول الجزرية كما هو الحال في اليابان والفلبين وإندونيسيا.
ومن ناحية أخرى فقد تكون الأنهار مثلا عنصرا مقسما للدول وليس موحدا لها فنهر ريوجراند بين الولايات المتحدة والمكسيك ونهر الآمور بين الصين والاتحاد السوفيتي وكذلك البحيرات كبحيرة إيري وبحيرة جنيف استخدمت لكي تسير معها الحدود السياسية الدولية، وقد يكون للحدود الدولية دور هام في الدفاع عن الدولة بالرغم من أن الحروب الحديثة تستطيع التغلب على العوائق الطبيعية بسرعة ولعل في عبور الحلفاء نهر الراين ضد ألمانيا في ربيع سنة 1945 وعبور القوات المصرية قناة السويس ضد إسرائيل في أكتوبر 1973 خير دليل على ذلك.
وقد يكون للمجاري المائية أهمية في النقل والتجارة وفي الري وتوليد القوى الكهربائية ويقوم نهر الفولجا في الاتحاد السوفيتي بالوظائف الثلاث بالنقل والري وتوليد القوى الكهربائية ولكي يستخدم في النقل لا بد أن يكون النهر منحدرا انحدارا هينا وأن يربط بين أقاليم ذات أهمية اقتصادية في الدولة فنهر الأمازون مثلا يصرف مياه حوض عظيم الاتساع يبدو أنه غير مسكون كذلك هناك ثلاثة أنهار رئيسية في سيبيريا السوفيتية تتجه شمالا نحو المحيط المتجمد الشمالي وهي أوب وينسي ولينا، ولقد خدمت أنهار كثيرة في الماضي التوسع السياسي لدول كثيرة كما حدث في أفريقيا في القرن التاسع عشر عندما تحددت حدود مستعمرات كثيرة بحدود أحواض الأنهار، أو مجاريها.
7- الموارد المعدنية:
وتشمل الثروات المعدنية الفلزية واللافلزية وموارد الوقود كالبترول والفحم وليست مهمة فقط كمتطلبات أساسية للمجتمعات الصناعية الحديثة ولكنها قد تكون ضمن عوامل النزاع في مناطق إقليمية وهناك دول قليلة في العالم تملك كثيرا من بعض مصادر الثروة التي يحتاجها التصنيع بكميات وافرة وتتجه الدول الصناعية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفيتي نحو الدول الأقل قوة مثل فنزويلا وإيران وبوليفيا، التي تحوي أراضيها مصادر ثروة كبيرة ولكي تحمي احتياجاتها من هذه الموارد فإن الدول الصناعية قد تنشئ في بعض الأوقات أشكالا متعددة من مجالات النفوذ تضم الدول الأضعف.
هذا وقد يؤدي وجود مصادر معدنية غنية في مناطق الحدود إلى منازعات مسلحة بين الدول المتجاورة وأمثلة ذلك اكتشاف رواسب النترات في صحراء أتاكاما في غرب أمريكا الجنوبية الذي أدى إلى حرب ضروس عرفت باسم حرب الباسيفكي "1879 - 1884" وشملت شيلي وبيرو وبوليفيا؛ وذلك لامتلاك هذه المنطقة.
ولا تعني مناقشة هذه الخصائص الطبيعية أن كلا منها متساوٍ في الأهمية مع العناصر الأخرى؛ ذلك لأنه في داخل الدولة فإن هذه العناصر السبعة موجودة بدرجة أو بأخرى، ولكن في كل دولة فإن عنصرا أو عنصرين فقط قد يكونا ذوي مغزى سياسي.
ثانيا: الأسس والعوامل الحضارية:
1- السكان:
يمثل السكان العنصر البشري المحوري في الجغرافيا السياسية ومشكلاتها المتعددة. ذلك لأن السكان عامل حيوي ديناميكي متحرك في دخل الوحدة السياسية وينشأ هذا التحرك في الواقع عن الزيادة الطبيعية والهجرة مما يؤثر في التركيب العمري النوعي والاقتصادي والعرقي للسكان وقد ينعكس ذلك على المشكلات العنصرية السائدة في بعض المجتمعات كذلك قد يؤدي إلى نزعة قومية تدفع بالدول إلى الاحتكاك ومن ثم تخلق المشكلات السياسية المحلية في داخل الدولة أو بينها وبين جيرانها.
ويعد السكان على درجة كبيرة من الأهمية للدولة حيث يرتبط ذلك بحجمهم وتوزيعهم وتركيبهم وليس حجم السكان في الدولة عاملا هاما في قدرتها على تلبية احتياجاتها فقط ولكن لإمكانياتها وقدراتها الكامنة كذلك. فبعض الدول تتميز بكثافة سكانية عالية مثل اليابان وهولنده وبلجيكا وبريطانيا ولا تستطيع تحقيق اكتفاء ذاتي في احتياجاتها الغذائية بالرغم من استخدام الأساليب الزراعية الحديثة. وفي مجال العلاقة بين الغذاء والسكان في الدولة فإن الدول كثيفة السكان قد تتجه إلى زيادة موارد الغذاء المحلية وتنشئ إمبراطوريات فيما وراء البحار تساعد على نموها الاقتصادي أو تقليل أعداد السكان بها بتشجيع الهجرة الخارجية على نطاق كبير نحو مناطق استيطان جديدة. أو قد تسلم في النهاية بانخفاض مستوى المعيشة لأفرادها.
ولما كان التوسع في زيادة موارد الغذاء المحلية مرتبطا بعوامل محددة في البيئة الطبيعية فإن استيراد كل احتياجات السكان يصبح أمرا لا مفر منه وخاصة إذا كان الاستيراد أرخص من الإنتاج المحلي لبعض هذه الاحتياجات.
أما البدائل الثلاثة الأخرى فلها دلائل سياسية قوية فقد اختفت الإمبراطوريات أو كادت مثل الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية والهولندية، وكذلك أصبحت مناطق استقبال المهاجرين محددة بنظم صارمة "نظام الحصص مثلا" كما في الولايات المتحدة وكندا واستراليا أو بعوائق طبيعية كما في أجزاء من أمريكا اللاتينية وأفريقيا. كما أن الهجرة الخارجية قد تضعف من التركيب السكاني للدولة؛ وذلك لأن العناصر الشابة والطموحة هي التي تهاجر. وأخيرا فإنه ليست هناك حكومة تنتهج سياسة خفض مستمر في مستويات العيش لسكانها.
وترتبط العلاقة بين حجم السكان والقوى القومية الكامنة بتركيب السكان تفصيليا وتكنولوجيا كذلك بقدرة الحكومة على تنظيم سكانها لخدمة الدولة ويساعد التعليم والمهارات الفنية للسكان على استخدام الموارد القومية بكفاءة. ومن أمثلة التنظيم الموجه ما حدث في ألمانيا وأثناء الحرب العالمية الثانية حيث دربت الحكومة 65 مليونا من البشر من ذوي القدرات والمهارات وذلك لتحقيق الأهداف القومية ولقد كان معظم قوة ألمانيا السياسية والعسكرية خلال هذه السنوات راجعا إلى حجم وتدريب سكانها، كذلك نجاح اليابان نجاحا مذهلا في استثمار مواردها البشرية استثمارا مكنها من تعويض النقص في مورادها الاقتصادية واستطاعت بذلك أن تتبوأ مكانة رفيعة في الاقتصاد العالمي.
ويرتبط توزيع السكان بحجمهم والذي يعد بدوره هاما بالنسبة للوحدة أو التنافر الداخلي والعلاقات بين الدولة وجيرانها فالمناطق ذات الكثافة السكانية العالية تعد تأثيرا على التركيب المترابط للدولة وقد تكون مصدرا لمشكلات سياسية وعلى المجال الدولي فإن الحدود السياسية التي تخترق مناطق قليلة السكان تؤدي إلى قلة الاحتكاك بدرجة أقل منها إذا اخترقت مناطق كثيفة. كذلك فإن المناطق الآهلة بالسكان القريبة من مناطق النزاع السياسي المجاورة قد تكون ذات أهمية للدولة وخاصة في وقت الحروب؛ ذلك لأن هذه المناطق إذا تعرضت لغزو وتمت السيطرة عليها أصبحت المقاومة ضعيفة في مواجهة العدو ولعل في موقع باريس ومنطقتها بالنسبة لحدود فرنسا الشمالية الشرقية دليل على ذلك.
أما العنصر الثالث من السكان فهو تركيبهم وخاصة لغويا ودينيا وعرقيا وهناك دول تتميز بازدواج لغتها مثل كندا وبلجيكا كما أن هناك دولا تختلف أجزاؤها دينيا مثل كندا ويوغسلافيا وهولنده وإندونيسيا وأيرلنده الشمالية. والاختلافات العرقية تتمثل في جمهورية جنوب أفريقيا والولايات المتحدة. وقد يضعف وجود أكثر من لغة قومية واحدة داخل الدولة من قوتها السياسية حيث تنزع المجموعات اللغوية إلى تغير النمط السياسي السائد وتتجه إلى انفصال عن جسم الدولة وتكوين وحدة سياسية مستقلة.
التجانس السكاني في الدولة:
تعتمد الوحدة السياسية للدول على مجموعة من المقومات البشرية المرتبطة بالتركيب السكاني فيها والتي تجمع بين السكان وتكون مشتركة بينهم مؤلفة بين مشاعرهم تجاه الأرض التي تكون الإطار البيئي لهم ويدخل في عداد هذه المقومات التجانس اللغوي والديني والحضاري والعرقي بما يكفل وحدة الفكر والمشاعر.
وقد ظهرت أهمية هذه المقومات في خلق دول كثيرة في العصور القديمة تجلى فيها الحرص على الروابط التي تزيد أهميتها ظروف البيئة الجغرافية الطبيعية ومن هذه الدول مصر التي أسهم النيل في إيجاد كيان طبيعي ترتكز عليه المقومات البشرية للدولة بها.
على أن دراسة التجانس السكاني تستتبع دراسة الجنس والتوزيع اللغوي والديني ثم تحديد دور كل من هذه العناصر في الكيان السياسي؛ ذلك لأن كثيرا من المشكلات السياسية المحلية والدولية ترجع في الغالب لتباين في التركيب السلالي أو الديني أو القومي.
والجنس اصطلاح علمي غير محدد يطلق على مجموعة من البشر لهم صفات طبيعية خاصة مثل لون البشرة، وملامح الوجه، وشكل الرأس، وغير ذلك من الصفات الظاهرة التي يتخذها علماء الأجناس أساسا لتصنيف السكان إلى أجناس وربما كان التقسيم المألوف إلى قوقازي ومغولي وزنجي هو أبسط تقسيم للسكان إلى أجناس رئيسية.
وقد سيطرت فكرة سيادة بعض الأجناس على أذهان بعض الساسة حيث أقاموا سياستهم على أساس بعض الخرافات الجنسية مثل خرافة التفوق الجنسي في ألمانيا النازية حيث كان هتلر من المؤمنين بأسطورة الجنس الآري، وما اشتملت عليه من تفوق النورديين على كل من عداهم من الناحيتين العقلية والبدنية وقد كان لهذا الاعتقاد نتائجه الخطيرة حيث يفسر الطريقة التي سار عليها الرايخ الثالث في معاملته للأجناس الأوروبية المنحطة في نظره وما أنزله بها من ألوان الاضطهاد والتعذيب. كذلك لم يترك قادة اليابان قبل هزيمتها في الحرب العالمية الثانية فرصة إلا وأكدوا فيها وجوب تقديس إمبراطورهم والرسالة المقدسة التي تقوم بها حكومته مما جعل الكثير من الجنود اليابانيين يؤمنون إيمانا راسخا بأنهم رسل الإمبراطور في إبلاغ رسالته إلى الباسفيك والشرق الأقصى.
كذلك أدى وجود الزنوج في الولايات المتحدة إلى خلق ما يعرف بالمشكلة العنصرية، ويأخذ التعصب ضد الزنوج في التضاؤل في أمريكا اللاتينية حيث يتمتع زنوج البرازيل بحقوق وامتيازات يحسدهم عليها زنوج الولايات المتحدة الذين يعانون من التفرقة العنصرية معاناة شديدة.
ولكن ينبغي الإشارة في هذا المجال إلى أن السلالة أو الجنس لا تعتبر عاملا حتميا للتجانس السكاني للدولة، ذلك لأن توزيع السلالة الواحدة قد يكون كبيرا بدرجة لا تسمح بنوع من التجانس المحلي القائم على مقومات أخرى حضارية كاللغة والدين وأسلوب الحياة بل إن السلالة الواحدة قد تضم سلالات فرعية تختلف دياناتها أو لغاتها وأسلوب حياتها كذلك فإن حركة السكان الدائبة والتي ازدادت في العصر الحديث أدت إلى اختلاط واسع وكبير انتفى معه الادعاء بالنقاء العنصري أو الجنس.
وقد أدى الادعاء بالنقاء الجنسي إلى خلق مشكلات سياسية متعددة لعل أهم مظاهرها في العصر الحديث مشكلة التفرقة العنصرية التي تتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية بين البيض والملونين حيث مازال الرجل الأبيض يشعر باستعلاء ورقي عن الملون مما أدى إلى وجود تمزق في الهيكل السكاني يشبه مثيله في جمهورية جنوب أفريقيا وزيمبابوي حيث كانت هجرة الأوروبيين إليها مصحوبة الإحساس بالتفرقة على السكان الأصليين. وتعد الولايات المتحدة الأمريكية من الأمثلة الواضحة على الدول ذات المشكلات العنصرية حيث إن عشر عدد سكانها من الزنوج والملونين. ويعيش معظم هؤلاء في الجنوب الشرقي وهو معقل العبودية الأصلي الذي يتميز بزراعة القطن، وتتضاءل النسبة للملونين نحو الشمال قلة واضحة، ويعيش زنوج الولايات المتحدة في مستوى اقتصادي منخفض عن البيض فقد بلغ متوسط نصيب الفرد الأبيض من الدخل سنة 1965 مثلا 4800 دولار مقابل 2700 للزنجي، كما أن التمييز العنصري يشمل النواحي السياسية والاجتماعية فليس هناك سلم اجتماعي يمكن أن يصل بواسطته السود إلى مرتبة البيض.
كذلك تتكرر ظاهرة التفرقة العنصرية في جمهورية جنوب أفريقيا وذلك بالرغم من أن التركيب السكاني يختلف بها عن مثيله من الولايات المتحدة كذلك؛ لأن زنوج جنوب أفريقيا هم الأغلبية وليست هناك ولاية واحدة من ولايات البلاد يتفوق فيها البيض على الزنوج -بعكس الحال في الولايات المتحدة الأمريكية التي لا توجد بها ولاية واحدة يتفوق فيها السود على البيض. ولكن تعقيد الموقف في جنوب أفريقيا يظهر في أن معظم الأوروبيين يرجعون إلى أصل هولندي "البوير" والقليل إلى أصول بريطانية ذلك بالإضافة لوجود سكان آسيويين وآخرين مخلطين في مقاطعة الكاب وهم نتاج للأفريقيين والأوروبيين ويعمل الملونون بالأعمال اليدوية كالتعدين والأعمال المنزلية وهم يعيشون في مستوى اقتصادي منخفض وكانت نفس الظاهرة سائدة في زيمبابوي قبل استقلالها حيث كانت أقلية بيضاء من أصل بريطاني تتحكم في أغلبية زنجية، وتتملك الدولة بمعنى الكلمة حيث كانت لها الأراضي الزراعية الخصبة والمصانع والمؤسسات التجارية، وقد تغير ذلك الوضع تماما بعد الاستقلال.
أما اللغة:
فهي من أفضل الوسائل وأظهرها أثرا في خلق التجانس السكاني للدولة حيث إنه من الطبيعي أن يكون الاتفاق في اللغة عاملا هاما من عوامل توحيد الجماعات كما أن اختلافها يؤدي إلى التفرقة في الغالب. وتتميز كل من أوروبا وآسيا بتعدد لغاتها وتباينها، عكس المشاهد في أمريكا واستراليا، حيث تعتبر مشكلة اللغة أبسط المشكلات وأيسرها فالإنجليزية والإسبانية والبرتغالية هي اللغات الرئيسية في الأمريكتين مع قليل من الفرنسية في مقاطعة كوبيك بكندا، والهولندية في جزر الهند الغربية وسورينام. واستراليا لها لغة واحدة وهي الإنجليزية. كما أن الوطن العربي يتكلم بلغة واحدة هي العربية. أما الهند فهي مثل الدولة التي تتعدد فيها اللغات وإن كانت الإنجليزية هي لغتها الرسمية حيث توجد بها مئتا لغة عدا اللهجات العديدة ومن هاتين يوجد عشر لا يقل عدد من يتكلم كلا منها عن التسعة ملايين من الأنفس.
ويتحدث سكان العالم اليوم بما يقرب من ثلاثة آلاف لغة تتفاوت من اللغة الصينية والإنجليزية التي يتكلم بها مئات الملايين ولغات قبائل الأمازون في أمريكا الجنوبية وقبائل نيوغنيا وأجزاء من آسيا التي يتحدث بها جماعات قليلة العدد وقد شهد العصر الحديث انتشار استخدام لغات عالمية وتقلص لغات أخرى حتى اختفت أو أصبحت قاصرة على أقليات لغوية في أماكن عزلة بعيدة في رقعة بعض الدول.
ويعد توزيع اللغات على سطح الأرض أمرا معقدا للغاية ويندر أن تتمشى الحدود السياسية تماما مع الحد اللغوي للدولة ومعظم دول العالم لها لغة رسمية وأحيانا لغتين أو ثلاث ولذا يمكن تصنيف لغات العالم في هذا الصدد إلى أربع مجموعات:
1- بعض اللغات تتكلمها عدة دول مثل الإنجليزية والإسبانية والفرنسية والبرتغالية والألمانية والعربية.
2- بعض اللغات تستخدم في دولة واحدة فقط مثل البولندية واليابانية والأيسلندية.
3- بعض الدول تسود فيها عدة لغات مثل الاتحاد السوفيتي حوالي 150 والهند حوالي 15 لغة رئيسية والصين ودول أخرى في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
4- بعض اللغات توجد في دولتين أو أكثر اليوم كأقليات لغوية مثل الباسك في إسبانيا وفرنسا والكردية في منطقة الأكراد في تركيا وإيران والعراق وسوريا.
وتعاني بعض دول العالم من مشكلات لغوية أوضح أمثلة تلك أنه من بين الدول الثلاث عشرة الأوائل في حجم السكان في العالم توجد مشكلات لغوية معقدة لسبب ولآخر، ومنها الصين والهند والاتحاد السوفيتي والباكستان ونيجيريا وبعضها يعاني مشكلات أقل صعوبة مثل الولايات المتحدة "المهاجرين" والبرازيل "لغات الهنود الحمر في الأمازون" وهناك دول لا تعاني من هذه المشكلات تماما مثل اليابان وألمانيا، وبالنسبة للدول الصغرى فبعضها يتعرض لمثل تلك المشكلات اللغوية مثل بلجيكا وتشيكوسلوفاكيا وسويسرا وبعض الأقطار الأفريقية والآسيوية الأخرى.
في هذا المجال فإن دول العالم تتباين من حيث مستوى الحالة التعليمية لكل منها ففي الوقت الذي يستطيع فيه أكثر من 90% من سكان الدول المتقدمة القراءة "السكان بعد سن السابعة" فإن هناك دولا نامية لا يستطيع أكثر من 90 % من سكانها ذلك.
أما الدين:
فهو وإن كان يعتبر عاملا من عوامل التجانس السكاني للدولة إلا أنه لم يعد كما كان قديما من الأسباب التي تثار من أجلها المنازعات حيث فترت روح التعصب الديني التي كثيرا ما اشتعلت الحروب في العصور القديمة والوسطى كما حدث في الحروب الإسلامية لنشر الدين الإسلامي وفي الحروب الصليبية التي استمرت سنوات طويلة وقد حل التسامح الديني نتيجة انتشار الثقافة وتغلب المصالح الاقتصادية والسياسية على الاعتبارات الدينية، ومع ذلك فما زال للدين دور هام في حياة الدول وسياساتها؛ ذلك لأنه يعد أحد مكونات المجتمع ويستطيع أن يدعم قاعدة البناء السياسي للدولة حيث تتميز كثير من الدول بديانة واحدة كما هو الحال في كثير من الدول الإسلامية والمسيحية والهندوكية والبوذية.
وقد تنقسم المجموعة الدينية إلى عدة مذاهب أو طوائف مما يزيد من تعقد المشكلات السياسية والقومية كذلك فإن للدين آثاره في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للشعوب.
ويتميز توزيع الأديان في العالم بالانتشار في مساحات واسعة. فالمسيحية بمذاهبها الثلاثة: البروتستانتية والكاثوليكية والأرثوذكسية، هي الديانة الغالبة في الأمريكتين واستراليا وأوروبا وبعض الدول الأفريقية وقد كان انقسام أوروبا إلى عدد من العقائد الدينية المختلفة عاملا هاما في تشكيل طباع وسلوك شعوبها وفي زيادة قوة الشعور الوطني المحلي بها، ويسود المذهب المسيحي الكاثوليكي معظم دول القارة مثل إيطاليا وفرنسا وبلجيكا وشبه جزيرة أيبيريا وفي أيرلنده والنمسا والمجر وشمال يوغسلافيا ومعظم تشيكوسلوفاكيا وكل بولنده وجنوب ألمانيا وليتوانيا وجنوب هولنده وأجزاء من سويسره، أما البروتستانتية التي نشأت في شمال ألمانيا فتعد العقيدة السائدة في الأراضي الإسكندنافية وفي فنلنده وهولنده وبريطانيا ولاتفيا وإستونيا وأجزاء من المجر ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا وتسود الأرثوذكسية في شبه جزيرة البلقان.
وقد شهدت القارة الأوروبية منازعات ومصادمات بين هذه الطوائف الدينية ومن قبيل ذلك المنازعات بين الكروات الكاثوليك والصرب الأرثوذكس في يوغسلافيا وكما هي الحال في أيرلندا في الوقت الحاضر وما تشهده من مصادمت بين الطوائف الدينية فيها.
أما الإسلام فينتشر من جزر الهند الشرقية شرقا حتى شمال أفريقيا غربا بما في ذلك الشرق الأوسط وأجزاء من الهند وغرب الصين وبعض جزر الفلبين وتمتد الديانة البوذية من منغوليا حتى جنوب شرق آسيا. أما الديانة الهندوكية فمركزها بلاد الهند وإن كانت هذه البلاد تضم ديانات أخرى متعددة ويدين معظم الصينيين بمذهب كونفوشيوس أما العقائد البدائية فتنتشر في بعض المواطن الاستوائية في أفريقيا وبعض جهات شرق آسيا وجزر المحيط الهادي.
2- التركيب الاقتصادي
يعد البناء الاقتصادي القوي عنصرا رئيسيا من عناصر قوة الدولة فقد كان الاقتصاد الزراعي والصناعي الأمريكي من العوامل الرئيسية في انتصار الحلفاء في الحربين الأولى والثانية، كذلك مكن الاكتفاء الذاتي لألمانيا مقاومة حصار الحلفاء على السلع الاستراتيجية في كلا الحربين، وفي أوقات السلام فإن السيطرة الاقتصادية لدولة ما على دولة أخرى تحمل في طياتها سيطرة سياسية، كذلك ويؤدي التكامل الاقتصادي داخل أجزاء الدولة الواحدة إلى توفر عوامل الترابط بينها كما هي الحال في أستراليا والولايات المتحدة وكندا حيث كانت الوحدة الاقتصادية عنصرا موحدا بين أجزاء هذه الدول.
وقد ترتبط السيطرة الاقتصادية لدولة ما بسيطرة سياسية وأمثلة ذلك الإمبراطوريات السابقة حيث كان الضم السياسي مرتبطا أو ملازما للتوسع الاقتصادي للدولة المسيطرة وحتى بعد الاستقلال فإن هذه المناطق تعد مرتبطة اقتصاديا لفترة من الزمن ما لم تحصل الدولة على استقلال سياسي اقتصادي حقيقيين.
وتعتمد قوة الدولة على مواردها الاقتصادية وقدرتها على الإنتاج الصناعي سواء لأغراض السلم أو الحرب ولا تصل الدولة إلى مرتبة الدول العظمى إلا إذا توافر لديها القدر الكافي من الموارد الاقتصادية الأساسية داخل حدودها أو كان لها من القوة والنفوذ ما يضمن الحصول على هذه الموارد من مواطنها الأصلية ومثل هذا الشرط من شأنه أن يحول دون بلوغ الكثير من الدول نيل هذه المرتبة.
وليست العبرة بتوفر الموارد الاقتصادية المتنوعة في الدولة وإنما المقياس كذلك هو استغلال هذه الموارد واستثمارها بدرجة تكفل معها الرخاء للدولة في وقت السلام والقدرة على الدفاع في وقت الحرب وذلك أمر هام لأن القدرة العسكرية للدولة تعد مقياسا هاما من مقاييس عظمتها.
وتقاس المقدرة الاقتصادية للدول بعدة طرق أهمها حجم الناتج القومي أو الدخل القومي كذلك تقاس بمتوسط نصيب الفرد من الدخل أو الإنتاج القومي وليس حجم الناتج القومي كافيا هو الآخر بل العبرة هي الارتباط الأمثل بين الحجم والتقدم. ونوع الإنتاج والخدمات التي تنتج ومدى الدور الذي يؤديه كل منها للدولة سلما أو حربا.
وقدرة الدولة على التصنيع مرهونة بوجود عدة مقومات أهمها توفر المواد الأولية والقوى المحركة والتقدم العلمي ووسائل النقل وغير ذلك ولسنا في مجال الحديث عن مقومات الصناعة فذلك موضوع آخر ولكن ما يهمنا هو دراسة أثر الموارد الاقتصادية والقدرة الصناعية في تشكيل قدرة الدولة السياسية وأثرها في المجال الدولي.
ولا تتوزع الموارد الاقتصادية في العالم توزيعا عادلا حيث لا تخضع لقاعدة أو نظام وتعد الموارد الاستراتيجية أكثر الموارد في المجال السياسي وهي كثيرة ومتعددة ومعظمها من المعادن التي أهمها الكروم والمنجنيز والأنتيمون والزئبق والنيكل والكوارتز والتنجستين والقصدير والبوكسيت والنحاس والرصاص والمغنسيوم والحديد والبترول والفوسفات والبوتاس واليورانيوم والزنك، أما الموارد غير المعدنية فهي متعددة هي الأخرى منها القطن والمطاط والصوف وبعض المواد الغذائية الهامة مثل القمح والأرز وغيرها.
ولا يتركز إنتاج الموارد المعدنية في دولة واحدة -كما سبق القول- كذلك فدول العالم تختلف فيما بينها من حيث حجم إنتاج المعدن ونسبته إلى جملة الإنتاج العالمي ويتركز إنتاج الحديد الخام في الاتحاد السوفيتي حيث ينتج 25% من الإنتاج العالمي. وفي الولايات المتحدة حيث تنتج 15% من إنتاج العالم و29% من إنتاج الكروم.
وأهم المراكز الصناعية في العالم الآن أربعة الأولى تتركز في شرق أمريكا الشمالية والثانية تشمل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا وسويسره في الجنوب وهولنده في الشمال والمنطقة الثالثة تقع في الاتحاد السوفيتي وتشمل المنطقة حول موسكو والدوبناس في جنوب الاتحاد السوفيتي ومناطق مبعثرة في سيبيريا والرابعة تشمل شرق الصين واليابان وتعتمد الصناعة في هذه الأقاليم على مجموعة من العوامل المتشابكة والمعقدة والمتغيرة.
ويعتبر الإقليم الصناعي في شرق أمريكا الشمالية أكثر الأقاليم تقدما وتنوعا في الإنتاج وقد تجمعت عدة عوامل جعلته يحتل هذه المرتبة منها موقعه البحري على المحيط الأطلسي بموانيه المتعددة وكذلك قربه من البحيرات العظمى التي سهلت له سبل النقل للموارد الخام وكذلك نقل المنتجات الصناعية نحو الظهير الداخلي الذي يشمل كل كندا والولايات المتحدة -بل يشمل أمريكا اللاتينية إلى حد كبير- ويتخصص هذا الإقليم في مختلف الصناعات وإن كانت الصناعات الثقيلة لها الأهمية في ذلك وقد تركزت قرب حقول الفحم والطرق المائية. مثل صناعة السيارات والآلات في إقليم شيكاغو - ديترويت وصناعة المنسوجات في جنوب نيو إنجلند وغير ذلك.
أما إقليم غرب أوروبا فيشمل أجزاء من بريطانيا وفرنسا وهولنده، وبلجيكا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا وسويسره، ويرتبط ببعض المناطق الصناعية في إيطاليا وإسبانيا وإسكنديناوه، ويعتمد هذا الإقليم أساسا على الفحم وخاصة في إنجلترا وشمال فرنسا وألمانيا. ويقع الإقليم في معظمه مطلا على البحر وتخدمه شرايين مائية داخلية ممتازة ممثلة في الأنهار والقنوات. ويتميز هذا الإقليم بقربه من مناطق الاستهلاك في دول العالم النامي. وكذلك يتميز بوفرة الأيدي العاملة الماهرة. ويتميز بتخصصه في بعض الصناعات وإن كانت صناعاته متعددة وكثيرة في أقاليمه الفرعية المختلفة مثل الجزر البريطانية وفرنسا وبلجيكا والرهر والسار وسيليزيا العليا وشمال سويسره وليون وسهل البو حيث الصناعات الثقيلة والمنسوجات وتكرير البترول وغير ذلك.
أما الإقليم الصناعي العالمي الثالث فيتركز في الاتحاد السوفيتي ويمتد من ليننجراد ويتجه شرقا خلال الأورال وفي أجزاء من سيبيريا وجنوبا نحو البحر الأسود وتتوزع المناطق الصناعية في الاتحاد السوفيتي في عمق الدولة من ليننجراد والدونباس في الغرب إلى فلاد يفوستك نحو الشرق. وقد أنشأت الحكومة السوفيتية كثيرا من المناطق الصناعية الجديدة وذلك لأغراض استراتيجية وكذلك لتنمية بعض المناطق المختلفة من الدولة وتتخصص منطقة ليننجراد بتنقية المعادن والصناعات الخشبية والمنسوجات القطنية ومنطقة موسكو تنتج المنسوجات والآلات الزراعية وبعض الصناعات الخفيفة والمطاط. وأما إقليم الدونباس فينتج الحديد والصلب والصناعات الثقيلة وتكرير السكر والكيماويات والسيارات والسفن أما منطقة ثنية الدنيبر فتنتج الصلب وتكرر السكر والكيماويات أما جنوب الأورال فتنتج المعادن والكيماويات والورق والمنسوجات.
ويشمل الإقليم الصناعي العالمي الرابع منطقة شرق الصين واليابان حيث تنمو الصناعة فيهما بسرعة. ويتركز الإقليم الصناعي الياباني في الأجزاء الغربية والجنوبية من البلاد بين ضواحي طوكيو ونحو الغرب لمسافة 1300 كيلو متر إلى الجنوب الغربي لجزيرة كيوشو. ويتميز هذا النطاق بارتفاع نسبة سكان المدن به وبتعدد صناعاته التي اعتمدت على الحديد والفحم من ناحية وسهولة النقل من ناحية أخرى حيث الترابط الإنتاجي والنقل وثيق بين أوزاكا وطوكيو ويوكاهاما وحيث تعد كوب الميناء الرئيسي والمتخصص في بناء السفن بينما أوزاكا تتخصص في الصناعات الثقيلة والخفيفة والمنسوجات وغيرها.
وقد نهضت الصناعة اليابانية نهضة هائلة بعد الحرب العالمية الثانية وغزت أسواق العالم بمنسوجاتها وصناعاتها الكهربائية وغيرها والتي قامت على استيراد كثير من المواد الخام من الخارج.
أما الصين فتسير بخطوات واسعة نحو التصنيع وإن كان 2% من سكانها يعملون بالصناعة فقط ويتوفر بها الفحم والحديد وكثير من المعادن. كما يتوفر لها السوق الواسعة ممثلة في سكانها التسعمائة مليون وتتركز الصناعات في إنتاج وسائل الإنتاج الزراعي وغيرها من الصناعات التي تقوم في المدن الرئيسية مثل مكدن في منشوريا وتيانتسن وشنغهاي ونانكنج وكانتون.
وخارج هذه الأقاليم الصناعية العالمية الأربعة تتبعثر مناطق صناعية في بعض دول العالم الأخرى، مثل البرازيل وأستراليا والهند ومصر وقد اتجهت بعض هذه الدول نحو التصنيع لأسباب قومية واقتصادية واجتماعية، وتعتمد الصناعات في هذه الدول على المواد الخام المحلية والمساعدات الفنية والمادية من الخارج وقد استفادت استراليا والبرازيل من الأيدي المدربة التي وفدت إليها من غرب أوروبا. ويعتبر العامل القومي من دوافع التصنيع في دول العالم النامي حيث تلجأ الدول الصغرى إلى تصنيع كثير من منتجاتها حتى لا تظل معتمدة على الدول الكبرى الصناعية في أمريكا الشمالية وأوروبا.
وهكذا يبدو الدور الذي تلعبه الموارد الاقتصادية في الكيان السياسي للدول، حيث تتميز الدول المتقدمة بأنها دول صناعية في المقام الأول وحيث تعتمد على قدرتها الصناعية في بناء القوة السياسية والعسكرية. ولا شك أن الإنتاج الصناعي يعد ركيزة هامة للقدرة الوطنية وذلك لما يؤثر به في المستوى المعيشي من ناحية وفي توفير ا